الجمعة


«سيد درويش الثاني والتلميذ الأكثر نجابة في مدرسته «ملك الموسيقى». صاحب الحس المرهف المعجون بالروح المصرية، والمزهو بإيقاعات الفلكلور الشعبي وشجنه. وإذا كان الموجي أقرب إلى مهابة ورصانة السنباطي، وكمال الطويل أقرب إلى عبد الوهاب في انفتاحه على الموسيقى الغربية، فإن بليغ حمدي يبقى الأقرب إلى سيد درويش في تعبيره عن الروح الشعبية بكل جيشانها العاطفي. كان يحس في موسيقى الريف والصعيد والحارة الشعبية، رهافة وجمالاً لا يراه في أجمل موسيقى غربية. فحمى تراثاً موسيقياً هائلاً من الضياع، بفضل تعاونه مع أجمل الأصوات. ولد بليغ بن عبد الحميد حمدي مرسي في حي شبرا بالقاهرة في 7 أكتوبر 1931 وغادرنا في 12 سبتمبر عام1993 أي أن ذكرى رحيله مرت قبل أيام، وذكرى ميلاده ستأتي بعد أيام.

كان والده يعمل أستاذا للفيزياء في جامعة فؤاد الأول(جامعة القاهرة). ووالدته سيدة وفدية من سيدات المجتمع. أتقن العزف علي العود وهو في التاسعة وفي سن الثانية عشر حاول الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقي إلا أن سنه الصغير حال دون ذلك. التحق بمدرسة شبرا الثانوية، في الوقت الذي كان يدرس فيه أصول الموسيقى في مدرسة عبد الحفيظ إمام للموسيقى الشرقية، ثم تتلمذ بعد ذلك على يد درويش الحريري وتعرف على الموشحات العربية. ثم التحق بكلية الحقوق ولم يكملها - في نفس الوقت- التحق بشكل أكاديمي بمعهد فؤاد الأول للموسيقي (معهد الموسيقى العربية).

ما لا يعرفه الكثيرون أنه بدأ حياته الفنية مع فرقة «ساعة لقلبك» الشهيرة، وأقنعه محمد حسن الشجاعي المستشار الموسيقي الأشهر للإذاعة المصرية باحتراف الغناء، وبالفعل سجل للإذاعة أربع أغنيات. لكن تفكيره كان متجها صوب التلحين وبالفعل لحن أغنيتين لفايدة كامل تبعهما بأول أغنية «ضاربة» في مشواره وهي» ما تحبنيش بالشكل ده» لفايزة أحمد والتي قدم لها لاحقاً مجموعة من الأغاني الناجحة أشهرها «حبيبي يا متغرب».

في عام 1957 قدم أول ألحانه لرفيق دربه عبد الحليم حافظ «تخونوه» وهي رغم روعتها، بعيدة نسبياً عن الخط الذي اختاره لنفسه فيما بعد.

على عكس مقولة «عدوك ابن كارك» تبنى الموسيقار محمد فوزي موهبة بليغ وآمن به وأعطاه فرصة التلحين لمطربي شركته «مصر فون».

وفي أحد الأيام اقترح فوزي على أم كلثوم أن تخرج من اللون السنباطي ورشح لها ملحنا شابا ستظل موسيقاه خالدة لعشرات السنين اسمه بليغ حمدي.

آنذاك كان بليغ في السابعة والعشرين من عمره، ولم يعتمد رسمياً كملحن، وأرسلت إليه أم كلثوم للحضور في بيت طبيبها زكي سويدان، وفي وجود القصبجي وفوزي جلس بليغ على الأرض وعزف أول كوبليه من «حب إيه» وإذا بأم كلثوم تتصل على عبد الوهاب كي يأتي ويشهد معها مولد موسيقار عبقري، أرادت له «الست» أن يولد عملاقاً وسط العمالقة! بعد النجاح الساحق للأغنية، كتب بليغ اسمه في صفحة الخلود بوصفه أصغر ملحن تعاونت معه كوكب الشرق. وكان فوزي يجهز لها لحناً آخر هو «أنساك».. ورأى بليغ الكلمات في بيت أستاذه، فراح يعزفها، لتصبح الأغنية أيضاً من نصيب بليغ حيث تنازل له فوزي عنها. وبعدها شدت كوكب الشرق له مجموعة من الروائع منها: بعيد عنك، سيرة الحب، فات الميعاد، ألف ليلة وليلة، ظلمنا الحب، كل ليلة وكل يوم، أنا فدائيون، الحب كله.

ويشاء القدر أن يكون آخر ما غنت الست «حكم علينا الهوى» من ألحانه، وكذلك آخر ما غنى العندليب الأسمر «حبيبتي من تكون» إلى جانب تعاونه معه في عشرات الأغاني الخالدة مثل: خسارة، أعز الناس، سواح، على حسب وداد قلبي، التوبة، جانا الهوى، الهوى هوايا، موعود، زى الهوا، مداح القمر، حاول تفتكرني، ماشى الطريق، وأي دمعه حزن لا.

كما شكل ثنائياً في الحياة والفن مع وردة التي تزوجها عام 1972 ومن أشهر ما غنت له: العيون السود، خليك هنا، حنين، حكايتي مع الزمان، دندنة، لو سألوك، على رمش عيونها، واسمعوني.

ومثلما كان آخر ما غنى عبد الحليم وما غنت الست من ألحانه، فقد استكمل بليغ آخر ألحان أستاذه فريد الأطرش وهي أغنية «كلمة عتاب» التي شدت بها وردة، ورفض وضع اسمه على اللحن تقديراً لأستاذه.

لقد ترك بليغ بصمة هائلة على كل الأصوات التي تعامل معها، إلى درجة أن بعض الأصوات ماتت فنياً، فور رحيله ، فمع نجاة قدم روائع مثل: أنا بستناك، الطير المسافر، ليله من الليالي، في وسط الطريق، وسكة العاشقين.. ومع شادية قدم: والنبي وحشتنا، عالي، الحنة، قولوا لعين الشمس، عطشان يا صبايا، خلاص مسافر، آخر ليلة، يا أسمراني اللون.. كما لحن لها أغاني فيلمها الأشهر «شيء من الخوف» ومسرحيتها الوحيدة «ريا وسكينة». ومع صباح: عاشقه وغلبانة، يانا يانا، زى العسل، جاني وطلب السماح، وأمورتي الحلوة. ومن أشهر روائع بليغ: عدوية، بلديات، وسع للنور، ميتى أشوفك، ع الرملة، مغرم صبابة، وطاير يا هوى.. مع محمد رشدي.. «مستنياك» لعزيزة جلال، «أنا بعشقك» «الحب اللي كان» «مش عوايدك»، «فاتت سنة»، «أنا اعمل ايه»، «سيدي أنا»، و «حبينا واتحبينا» ميادة الحناوي.. «يمكن علي بالة حبيببي»، «هوى يا هوى»، كاه في المواني، ردوا السلام، جرحتني عيونه السود، وتساهيل .. لعفاف راضي.. «علمناه الحب» و«أسمر ملك روحي» سميرة سعيد.. «على قد ما حبينا» علي الحجار، «أشكي لمين» محمد منير.. هو اللي اختار، يا عشرة هوني، لما يغني الحب، يا عاشقين.. هاني شاكر.. «عسل وسكر» شهرزاد، «يا بهية وخبريني» محمد العزبي.. «عزالك علموك» هدى سلطان، «تتقال بالمال» سوزان عطية.. سلامات، متي أشوفك، وغزال اسكندراني.. لمحرم فؤاد.. مسا الجمال و ما بنامش الليل.. للفنانة لطيفة. إلى جانب تلك الروائع والأعمال العاطفية لحن بليغ مجموعة من أشهر الأغاني الوطنية مثل: يا حبيبتي يا مصر لشادية، عدى النهار وعاش اللي قال لعبدالحليم، الله أكبر باسم الله «المجموعة»، و«أنا ع الربابة بغني» لوردة. ومن أشهر ما قدم للأطفال «أنا عندي بغبغان» لوردة أيضاً.. كما كانت له مجموعة من الألحان الدينية الرائعة أشهرها «مولاي» للشيخ سيد النقشبندي.. إلى جانب ألحانه لأكثر من أربعين عملاً درامياً ما بين الإذاعة والتلفزيون والسينما والمسرح والأوبريتات أشهرها: المشربية، إحنا بتوع الأتوبيس، مدرسة المشاغبين، آه يا ليل يا زمن، السيرك،أضواء المدينة، الشيماء، مهر العروسة، تمر حنة، وياسين ولدي.

اتسمت ألحان بليغ بعاطفيتها وبساطتها وقربها من الناس، كما كان على الدوام منفتحاً على جميع الأصوات العربية، وكان اسمه كفيلاً بتحقيق النجومية لمعظمها أمثال وديع الصافي، فهد بلان، طلال مداح، نوال غشام، ذكرى، وآخرين. ومع شهرته في احتضان الأصوات العربية جاءت نهايته المأساوية، عندما أقام حفلة في منزله حضرتها مطربة مغربية مغمورة تدعى سميرة مليان، عثر عليها مقتولة أسفل الشرفة عام 1984 وبسبب تلك القضية قضى بليغ أربع سنوات متنقلاَ بين باريس ولندن بعد اتهامه بقتلها إلى أن تمت تبرئته عام 1989 وقيدت القضية ضد مجهول.

دافع بليغ عن نفسه بأنه ترك ضيوفه وذهب إلى النوم، لكن شبح سميرة مليان ظل يطارده في غربته، فعاني ألماً نفسياً أن يعيش أيامه الأخيرة بعيداً عن بلده التي عشقها وغنى لها أعذب الألحان، وسرعان ما عاد مهموماً وقد تكالبت عليه الأمراض ليغادر الحياة عن اثنين وستين عاماً، وكان آخر ما قدمه لجمهوره لحن «بوابة الحلواني» بصوت علي الحجار أحد أهم اكتشافاته الفنية.

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © بليغ حمدي - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -