الاثنين


قام بليغ بتلحين أغنية «تخونوه» التي غناها عبد الحليم حافظ، وكانت موسيقاها بحق غاية في الإبداع والروعة، لحن يتسلل إلى مشاعرك فيسكنها وتمتلئ به نفسك فترددها وهى تجتر ـ مع صوت عبد الحليم ـ ذكريات ومواقف مرت وأوجاع عانى منها القلب وانكسر।

سمعتها أم كلثوم وسألت: من لحن هذه الأغنية؟

فقالوا لها: شاب صغير اسمه بليغ حمدي.

فقالت: صغير في السن نعم، لكنه بكل المقاييس موهوب، وسيكون له شأن كبير.

ظن من معها أنها مجرد إشادة طيبة منها ليس أكثر، وتخيلوا لو أن بليغ سمع هاتين الكلمتين

ربما لم ينم من الفرحة سنة كاملة دون أن يخطر بباله أن هذه الإشادة سيكون لها بقية

في نفس اللحظة، طلبت أم كلثوم أن يأتوا إليها بهذا (البليغ)، فقال لها احد المقربين: لماذا يا ست؟

ردت: أريده.

قال لها: لو عرف لسقط من طوله من الخوف والفزع.

قالت أم كلثوم: ليه.. شيطان أنا ولا عفريت؟

فقال لها: أنت أم كلثوم وكفى.

كم رقم تلفونه؟.. سألت بجدية

فأعطاها الرقم.

أمسكت بالسماعة وأدارت القرص ليأتيها صوت بليغ بلا اعتناء:

نعم.. مين بيتكلم؟

أزعجتها في البداية بوهيميته فقالت: عايزة بليغ حمدي.

فرد: معاك.. مين بقى سعادتك.

ردت: أنا أم كلثوم.

ضحك وقال غير مصدق، معتقدا أن أحدا يلهو معه: أم كلثوم حتة واحدة.. مش ناقصين استظراف ع الصبح.

وهنا جاءه صوتها غاضبا: أنت يا افندي بتهزر ولا شارب حاجة.. أنا أم كلثوم وعايزة بليغ.

وانتفض بليغ من جلسته وقد أدرك أنها بحق الست، فاعتدل وقال لها: أمرك يا ست الكل، سامحيني لم أتصور ولم يخطر ببالي لحظة أن أفوز بهذا الشرف العظيم، افتكرتك واحد صاحبي بيهزر معايا।

قالت: واحد صاحبك.. ليه.. صوتي خشن للدرجة دي؟

رد: آسف يا ست.. الحقيقة أنا متلخبط، والى الآن لا اصدق أن كوكب الشرق هي التي تحدثني.

«أنا في انتظارك»

هدأت أم كلثوم من هذا الإطراء الجميل وقالت له: أنت (رغاي) أكثر من اللازم، عايزه أشوفك.. ممكن تيجيني؟

وكأن الحروف الأبجدية كلها قد تلاشت من فوق لسانه فقال لها وهو يتلعثم:

تشوفيني أنا يا ست، أنا زعلت حضرتك في حاجة لا سمح الله، ولا حد نقل لك حاجة عني بالغلط؟

أدركت أم كلثوم مدى الاضطراب الذي هو عليه، فأرادت أن تهدئ من روعه وقالت له: «أنا في انتظارك»॥ ثم وهي تضحك.. بكرة الساعة 9।

ولما كان بليغ يسهر الليل بطوله وينام النهار أيضا بطوله لم ينتبه إلى أن الست تعني التاسعة صباحا، معتقدا أنها كفنانة لا تنام إلا عندما

يصحو الناس، فسهر الليل كعادته يفكر في هذا المشوار الذي لا يعرف سببه وفي السابعة صباحا نام على أن يصحو ويذهب إليها في

الميعاد॥ التاسعة مساء।

ربنا يستر

انتظرته أم كلثوم فلم يأت॥ طلبته فلم يرد॥ استشاطت غضبا وأرسلت إليه من يعنفه، وفعلا ذهب المرسال إليه فوجده نائما، فأصر على

إيقاظه، (فرك) بليغ عينيه ونظر إلى الضيف الثقيل الذي بادره قائلا: الست انتظرتك فلماذا لم تأت؟

قال له: يا عم لسه بدري. الساعة دلوقتي 5، باقي 4 ساعات.

قال له بحدة: موعدك 9 صباحا يا أستاذ.

اعتدل بليغ وقال له بضيق: 9 صباحا، ليه.. حد قال لك إني ببيع لبن؟

لم يرد عليه وقال وهو ينصرف:

بكره 9 صباحا تكون في الڤيلا.. وربنا يستر لما تشوفك الست!

في مساء هذا اليوم قابل بليغ الموسيقار سيد مكاوي في نقابة الموسيقيين

وأطلعه على الأمر وكيف يذهب إليها في التاسعة صباحا موعد نومه، رد عليه مكاوي ضاحكا: ولو الفجر وحياة والدك لازم تروح।

قال بليغ: الفجر أهون، على الأقل باكون (فايق ومصهلل)، لكن قل لي يا أستاذ العمل إيه؟

قال الشيخ سيد مبتسما: العمل عمل ربنا، ح تروح.. ح تروح!

دي خناقة..مش أغنية

لم ينم بليغ طوال الليل إلى أن جاء الميعاد فذهب إلى شارع أبو الفدا حيث تسكن أم كلثوم،

ودخل محاولا التماسك خوفا من أن تخذله عيناه، فينام عندها، ودخل غرفة الاستقبال،

فوجد هناك جمعا من الناس بينهم وجدي الحكيم ـ وكان يعرفه ـ وطلب بنفسه قهوة

(دبل) كي يحافظ على صحوته، وجاءت أم كلثوم وصافحته وعاتبته برقة

فاعتذر على سوء الفهم، وسألها باضطراب: حضرتك عايزاني في إيه؟

فقالت له: أنت اللي لحنت أغنية حليم (تخونوه)؟

فقال: نعم.. ولو مش عاجبة سيادتك نمنع إذاعتها من أصله.

ضحكت الست وقالت: بالعكس.. دي روعة.

رد بليغ: ربنا يخليكي.

قالت: عندك حاجة كويسة لي؟

فسأل غير مصدق: لمين يا افندم؟

ردت: أنا مش بحب أعيد السؤال مرتين.

رد بليغ: أنت تؤمري وأنا أنفذ.

بدلال قالت مبتسمة: أنت (اونطجي) كبير.. لأ صحيح فيه حاجة تناسبني؟

فطلب منها بليغ عودا، وبعد أن ضبط أوتاره جلس على الأرض ومد رجليه فقال له احد الحاضرين: عيب يا أستاذ اقعد على الكرسي।

وهو يهم بالوقوف قالت له أم كلثوم: خد راحتك، وخليك على الأرض.

وراح بليغ يدندن على العود بمطلع أغنية

«حب ايه اللي انت جي تقول عليه॥ انت عارف قبله معنى الحب ايه

॥ لما تتكلم عليه॥ حب ايه ايه ايه॥ حب ايه اللي انت جاي تقول عليه»।

وانتهى بليغ من المقدمة وسكت، فقالت له ام كلثوم وقد أربكتها البداية: معقولة ابدأ اغنية بهذا المطلع.. ثم وهي تضحك: دي خناقة..مش اغنية.

ظن بليغ انها لم تعجبها.. لكنه فوجئ بها تقول: بس حلوة.. أكمل.

رد بليغ: الباقي لسه يا ست.

ثم سأل مضطربا: إيه رأيك؟

فقالت: مين اللي كتبها؟

أجاب: صاحبي عبدالوهاب محمد.

فقالت: انتوا الاثنين هايلين، تقدر تخلصها امتى؟

فقال بليغ غير مصدق: بجد يا ست عجبتك؟

قالت: طبعا.. انت (جن مصور)!

رجع بليغ إلى البيت يبحث عن أقرب سرير ليضع رأسه وينام، لكن من أين يأتيه النوم بعد كل هذه الفرحة وتلك المفاجأة। اتصل بصاحبه عبدالوهاب محمد وطلب منه أن يأتيه على الفور، وعندما حضر قال له بليغ: ام كلثوم।

فرد: اشمعنى؟

فضحك وقال: جرى ايه يا بوحميد انت (ح تخشلي) قافية.. وصمت لثوان ثم قال: المهم الست ح تغني «حب ايه».

لم يصدق عبدالوهاب محمد وقال له: معقول يا بليغ تجبني ع الصبح عشان تهزر معايا؟

فأقسم له انه لتوه عائد من عندها قائلا: طاقة السعد وانفتحت.

«انت فين والحب فين»

وكان عبدالوهاب محمد قد كتب الأغنية كاملة وأعطاها لبليغ ليرى اي صوت من الأصوات ـ

غير ام كلثوم طبعا ـ يصلح لغنائها، أما بليغ فقد تحمس حماسا غير مسبوق

وراح يكمل اللحن الذي شدت به أم كلثوم ليعيد إلى صوتها شبابه وهي تغني وكأنها ابنة العشرين॥

«أنت ما بينك وبين الحب دنيا.. دنيا..

دنيا ما تطولها ولا حتى بخيالك..

Leave a Reply

Subscribe to Posts | Subscribe to Comments

- Copyright © بليغ حمدي - Skyblue - Powered by Blogger - Designed by Johanes Djogan -