- Back to Home »
- (مقالات عنه) »
- ألحان بليغ حمدي وقناة الجزيرة!
السبت
بقلم الكاتب: فراس عبيد
في هذا الزمن الذي يتوه فيه الإنسان بين المال والسياسة، فيلهث باحثا عن حقيقة الحياة بينهما ولا يجدها، تلمع أنوار كونية هنا وهناك، على شكل ذبذبات مرتبة وفق ترتيب عبقري، تخترق بيسر وبسلاسة النظام الباطني للدماغ، فتعيد تنظيمه بما يتسق والموجات الكونية الكبرى، ما يؤدي إلى ارتفاع طاقة الذكاء، وإلى الإحساس بفرح باطني نادر، وهما بدورهما يقودان الإنسان إلى التفكير الصائب واتخاذ المواقف السليمة.
ما هي تلك الذبذبات؟
إنها الموسيقى.
الموسيقى عموما هي ذبذبات مرتبة وفق ترتيب معين، لها مقدرة خاصة على إحداث حالة من النشوة والفرح والسموّ لمن يسمعها، لذلك فإن الموسيقى أو تلك الذبذبات التي نسميها موسيقى.. تنتمي مباشرة إلى مجال صوتي متطور وغير منظور، هو المجال النوراني العلوي، وهي هبة العالم الإلهي للإنسان.
يا صاحِ عندما نقارن لغة الموسيقى بلغتنا المنطوقة أو المكتوبة، نجد لغتنا البشرية ضئيلة شحيحة!
لكن الموسيقى التي أتحدث عنها ليست أية موسيقى، وليست موسيقى هذه الأيام، بل أتحدث عن الموسيقى العبقرية والملهمة حقا، التي يتحاور فيها الوحي والحِرفة، وتتعانق في نغماتها ومقاماتها السماء والأرض، ويبدعها فنان حاز النورين، الحسّ المرهف والعبقرية الكامنة، مَثائل بليغ حمدي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد سلطان، ورياض السنباطي وسيد درويش وغيرهم.
تقوم تلك الموسيقى العبقرية بعمليات تصحيح داخلنا دون أن ندري، تماما مثل برامج تصحيح (الوندوز) في حياتنا الإلكترونية الحديثة، وتُحسّن تفكيرنا بزيادة عدد نبضات الذكاء، وتُقرّبنا من حقيقتنا الروحية السامية ومصدرها العلوي، فيتم شحننا بالقوة وباليقين وبالثبات، لنواجه حياة المادة والتجسّد الصعبة على هذا الكوكب الأرضي في هذه المرحلة الزمنية من عمرالكون.
لن أخفي إعجابي الكبير بألحان بليغ حمدي، كما لا يمكنني تَصَوّر أغنيات (أو بالأحرى روائع) وردة الجزائرية وعبد الحليم حافظ وعفاف راضي وميادة الحناوي وأدعية الشيخ سيد النقشبندي.. بألحان غير ألحان بليغ حمدي هذا الهرم من أهرام الموسيقى العربية!
وما علاقة الموسيقار العبقري بليغ المتوفى عام 1993 بقناة الجزيرة التي انطلقت عام 1996 ؟!
العلاقة بسيطة! أو هكذا تبدو.. ففي عصر يوم الجمعة الماضية، بينما كنت أجلس مسترخيا في صالة المنزل وشمس الشتاء الثمينة تتسلل بأشعتها الذهبية إلى الداخل عبر الباب الزجاجي الكبير للشرفة الرئيسة، والمقدمة الموسيقى العربية الفذة لرائعة عبد الحليم حافظ (حاول تفتكرني) تنبعث بهدوء من مسجلي القديم مانحة إياي شعورا بالروعة لا يضاهيه أي شعور، والتلفاز اللعين يعرض صوره بصوت أقل من متوسط الارتفاع لكنه يتحدث عن موضوع مشوق هو تدرج الأجهزة الشرطية في استخدام أساليب مواجهة التظاهرات في تونس بعد الثورة، واستناد ذلك التدرج إلى مواد في القانون الأساسي التونسي.. وبطريقة إخراج احترافية على عادة القنوات الإخبارية، فاندمجتُ للحظات مع المادة التلفزيونية المثيرة والجادة، لكن ألحان بليغ حمدي كانت تتسلل بخفاء وبهدوء وبثقة إلى أعمق النقاط في أعصابي السمعية والدماغية، مُحدِثة لَديّ حالة من الارتياح والسمو، دفعتني إلى ضغط زر (وضع صامت) للتلفاز رغم جاذبية البرنامج وأهميته!
ابتسمتُ لنفسي وقلتُ لها: أرأيتِ يا نفسي، لقد تَغلبتْ ألألحان الرائعة لبليغ على قناة بحجم الجزيرة، يا له من عالم مضحك!
ورحتُ أصعدُ وأتسامى مع ألحان بليغ.. وأشعة شمس الشتاء الذهبية تتواطأ معي، وتبوح لي: أرأيتَ كيف أن الروح أقوى من المادة!